سنّة الله في الأمم
ملخص الخطبة
1- سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتغير. 2- سنة تغيير الأمم. 3- حال الأمة الإسلامية اليوم. 4- أثر الإيمان في حياة المؤمن. 5- امتياز جيل الصحابة. 6- صيانة الإيمان. 7- خطر التنازع واختلال المفاهيم.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ إذ هي وصيّته للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
أيُّها المسلِمون، لقد أرشَد الباري سبحانَه في محكم التنزيلِ إلى أنَّ سننَه جل وعلا لا تتبدّل ولا تتغيّر، وأنَّ النواميسَ الإلهية تأتي على المجتمعاتِ وِفقَ ما قدَّره وبيّنه لهم خالِقهم بِشارةً ونذارةً، وأنَّ الأممَ والمجتمعاتِ ما انحدَرت من علوِّ عِزها ولا بادَت بعد أن سادَت ومُحِي أثرها ورَسمُها من ألواح الرِّفعة إلاّ بعد نكوصِها عن تلكُمُ السننِ وبُعدِها عن مسبِّبات العزّة والتمكين التي سنَّها الله على أساسِ الحكمة البالغة، ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام:131، 132].
إنَّ الله لا يغيِّر ما بأمّةٍ مِن عزّةٍ وغلبة وسلطانٍ وترفُّه ورَغَد عيش وأمنٍ وراحة حتى تغيّر تلك الأمةُ ما بنفسِها من نور العقل الصريح والنقلِ الصحيح والفكر المتجرّد وإشراقِ البصيرة والقوّة في الحقّ والعبرة والاعتبار بأيّام الله في الأمم السابقة والتدبُّر في أحوال المتهالكين الناكِبين عن صراط الله الهائمين في كلِّ وادٍ بسبَبِ عدولهم عن سنّة الدّين والعدل والاستقامة في الرأي والصِّدق في القول والقوّة في الانتماء والعفّة في الشهوات والحميَّة على العقيدة، وبسبَبِ إيثارهم الحياةَ للباطل على الموتِ للحق، فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر:21]، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].
فيا سبحان الله! ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة واليومَ بالأمس، وها هو التاريخ يعيد نفسَه، بينما كان المسلمون أمّةً واحدة من شرق الأرض إلى غربها حتى إذا فشلَت وتنازعت في الأمر وعصَى أهلها خالقَهم من بعدما أراهم ما يحبّون وأعجبتهم كثرتهم فلم تُغنِ عنهم شيئا بدّل الله رِفعتهم دونًا وسموَّهم صَغارًا وغِناهم فقرًا وقوّتهم ضعفًا، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2، 3].
إنَّ أيَّ مجتمع يغترّ بزعمِه ويحار في ظلماتِ أوهامِه فلا يكون الإيمانُ الحقّ سبيلا له في احتمال المشاقّ وتجشُّم المصاعب في سبيله فهو ليس بمعزل عن الأفئدةِ الهواء؛ لأنَّ الإيمان الحقيقيَّ لا بدّ أن يغلِب كلّ هوى ويقهر كلَّ ضعف ويدفع بالنفس المؤمنةِ إلى طلَب مرضاة الله بلا سائقٍ ولا قائد سواه، كما قال سبحانه وتعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة:44، 45].
فيا ترى عبادَ الله، هل في مثلِ تلكم الحال يمكن لأيِّ مجتمع مسلمٍ أن يتذوّقَ طعم السعادة السرمديّة والنعيم الأبديّ وقد بنى عقيدتَه على خيالٍ ليس له أثرٌ وطيفٍ لا يلبَث ويزول، أو يبني انتماءَه للدين والتديّن على شفا جرفٍ هار، أو تمسّك من حبلِ الدين المتين بخيطٍ هو أوهى في الحقيقةِ مِن خيط العنكبوت؟! كلاّ؛ لأنّ للعقائد الراسخةِ المتينة آثارًا تظهر في العزائمِ والأعمال وتأثيرًا في الأفكار والإراداتِ. هكذا هو الإيمان في جميعِ شؤونه وشُعَبه، له خواصّ لا تفارِقه وسماتٌ لا تنفكّ عنه، بها كان يمتازُ المجتمع المسلمُ في الصّدر الأول، بل كان يعترِف بتلكم الميزةِ وعلوِّ المنزلة من كانوا يجحدُونهم ويعادون عقيدَتَهم؛ وما ذاك ـ عباد الله ـ إلاَّ لصبرهم على طاعة الله وصدقِهم في الالتزام بالدين وعضِّهم عليه بالنواجذ ووقوفِهم أمامَ المحَن والبلايا بالإيمان الراسخ الذي لا يُزعزِعُه بركانٌ ولا تهيّجه ريح. لقد علِموا أن كلّ خطَر فهو تهلكةٌ ينبغي البُعد عنها إلاّ في الإيمان؛ فإنهم يوقنون أنّ التهلكة فيه نجاة، وكلّ ألَمٍ يلاقونه بسببِ تمسُّكهم بالدّين فهو أمَل، وكلّ مشقَّة ينالونها في إقامة العدلِ والحقّ فهي راحة وسَعة، وكلّ خوفٍ يصاحب الذودَ عن حياضهم فهو أَمن. إنهم يحسّون بذلك كلِّه لأنَّ لهم حياةً وراءَ هذه الحياة ولذّةً وراء لذاتها وسعادةً غيرَ ما يزيِّنُه الشيطان من سعادتها. هذه هي حال من لامس الإيمان قلبَه ولو لم يبلُغِ الغاية من كماله.
إنَّ انخناسَ النفس وفِرارها أمامَ محنةِ الله في الإيمانِ والتمسّك بالدين ليُعَدّ مجلبةً للخزي والهلَكة؛ إذ لا سعادةَ إلا بالدين، ودون حِفظ الدين تتطايَر الحظوظ والشّهوات؛ لأنَّ للإيمان والذودِ عن دين الله تكاليفَ شاقة وفرائضَ صَعبة في التحمّل والأداء إلا على الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى؛ حيث إنَّ أوَّل شيء يوجِبه الإيمان على المرءِ المسلم هو أن يخرج عن نفسِه لنفسِه وأن يبدّل من اهتمامِه به لاهتمامِه له؛ ليكون الله ورسولُه أحبَّ إليه من نفسِه ووَلَده والناس أجمعين.
إنَّ الله لا يقبل في صيانةِ الإيمان وحماية حَوزَة الدين وإقامةِ شِرعة الله ومنهاجه على أرضه عذرًا ولا تَعِلّة ما دام القَلب يفقه والرِّجل تمشي واليدُ تعمل والعين تُبصر والأذُن تسمع، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّه ما انهدم للأمَّة المسلمة في ماضِيها مِن بناءٍ شُيِّد ولا انقلَبت دول مُجِّدت إلا وكان ذلك من قِبَل التخلِّي عن الدين أو التهاونِ فيه، ثم للشقاق والاختلاف والثّقة بمن لا يوثَق به والاستئثارِ بالرأي والاستنكاف عن المشورةِ والجماعة والإهمال في إعدادِ القوّة وتفويض الأمور لمن لا يحسِن أداءَها ووضع الأشياء في غير موضعها، كلُّ ذلك كان سببًا ولا شكَّ في جلب الجَور بينهم واختلالِ نظمهم والحيد عن سننِ الله الداعي إلى غضبِه على الخاطئين، فيستبدل قومًا غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم، وهو أحكم الحاكمين.
بارَكَ الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله حده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فإنَّ الله جلّ وعلا قد جعل اتفاقَ الرأي في المصلحةِ العامّة الموافقةِ لهدي الإسلام والاتصال بصِلة الإلفة في المنافع الكلّيَّة سببًا للقوة واستكمال لوازمِ الراحة في هذه الحياة الدنيا والتمكُّن من الوصول للخير الأبديّ في الآخرة، كما جعل سبحانَه التنازع والتغابنَ والتدابر محلاًّ للضعف وداعيًا للسقوط في هوّة العجز والكسَل عن كلّ مصلحةٍ دنيويّة أو أخرويّة ولقمة سائِغة في مخالب العاديات من الأمم، فمن نظر نظرَةً في أحوال الشعوب ماضيها وحاضِرها ولم يكن مصابًا بموت القلب وعمَى البصيرة أدرَك سرَّ أمرِ الله في قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103]، وسرَّ نهيه سبحانه في قوله: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
ألا إنَّ المفاهيم إذا اختلّت والأنفسَ إذا تنازعت والبصائرَ إذا عمِيت فستكون النتيجة ولا شكَّ إفراز نفوسٍ من بني الملّة لا ترضى بحقيقةِ الإسلام وإن رضيَت برسمه، تتلوّن تلوّنَ الحرباء، وتتشكّل تشكّل الأغوال، نفوسًا تضحَك وقتَ البكاء وتمرَح عند اشتدادِ اللأواء، نفوسًا تنقبِض أوقاتَ المسرَّة وتضجَر لسعةِ الرحمة، نفوسًا تقدِّم العزاء إذا انتصَرت الاستقامةُ وتفرَح حالَ العزاء لفَقدها. إنَّ مثلَ هذه النفوس كمَثَل الحَسَك المثلَّث الأضلاع، كلّه شوكٌ حيثما قلَبته.
إنّنا ـ عبادَ الله ـ لو تدبَّرنا آياتِ القرآن واعتبرنا بما ألمَّ بالأمم المسلِمة عَبر العصور لأدركنا جيّدًا أنّ فيها من حادَّ الله ورسولَه وضلّ عن هديِهما، وأنَّ فيها من مال عن الصراطِ المستقيم الذي ضربه الله لنا وأرشدَنا إليه، وأنَّ فيها من اتَّبع هواه بغير هدًى من الله وسارَ وِفقَ رغبات النفس وخطواتِ الشيطان، والله جل وعلا يقول: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمّد بن عبدِ الله صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيَّهَ بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرا)).
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد...