القضيه الفلسطينيه فى قلب العاصفه

كثرت في الآونة الأخيرة النقاشات حول الوضع الفلسطيني المؤلم والتردي الحاصل ومن هو المسؤول عن تدهور الأوضاع ووصولها الى نقطة اللاعودة! وكيف بالإمكان الخروج من هذه الحالة المأساوية التي وصل إليها شعبنا وسلطته.. ومن المؤسف جدا أن البعض يحاول تحليل الأمور من زاوية الانتماء العقائدي مبتعدا عن الواقعية في الطرح ووضع الأمور في نصابها الصحيح!

جذور الانقسام الفلسطيني..
لا يمكن لأي كان أن ينكر التناقضات الفكرية العقائدية بين حركتي "فتح" و"حماس" .. تناقض بين تيارين فكريين متناقضين... واشتد التناقض والتنافر بعيد إبرام اتفاقات أوسلو التي عارضتها "حماس" وبعض قوى اليسار الفلسطيني وبشدة، كون هذه الاتفاقات تتناقض مع المشروع الوطني التحرري للشعب الفلسطيني وتشكل نسفا للثوابت الوطنية وللميثاق الوطني الفلسطيني. هناك من ظن أن هذه الاتفاقات قد تأتي بالنتائج المرجوة! وعلل توقيعها للظروف الدولية والعربية والفلسطينية الصعبة.. وعدم وجود خيار أخر أمام (م ت ف) للخروج من الوضع المأساوي الذي حل بقوى التحرر الفلسطينية بعد الخروج ألقسري من بيروت عام 1982 ومن عارض اتفاقات "أوسلو" لم يطرح البديل ولم ينظر الى الوضع الدولي بتبصر ... انهيار المنظومة الاشتراكية التي شكلت قوة الدعم المركزية للثورة الفلسطينية .. العجز العربي الرسمي وعدم تمكن النظام العربي من التحرك سياسيا ودبلوماسيا... محاولات بعض الأنظمة العربية الهيمنة على (م ت ف) مستغلة الضعف الذي عانته ما بعد الخروج ألقسري من بيروت عام 82 ... كل هذه العوامل مجتمعة دفعت بالقيادة الفلسطينية الى البحث عن حل سلمي مرحلي يؤمن لها بقائها ويجنبها حالة التراجع والانحسار في المد الثوري ... من هنا فلولا أوسلو لبقيت القيادة الفلسطينية في تونس ولبقي الوضع على ما هو عليه.. أوسلو كانت بوابة عودة القيادة الفلسطينية الى ارض الوطن ... ومعارضي أوسلو لم يطرحوا بديل سوى الخيار الثوري الذي كان شعارا غير واقعيا في تلك الفترة... فهل كان بالإمكان تجسيد هذا الشعار من تونس ؟! لذا رأت م ت ف أن الحل المرحلي وسياسة الخطوة خطوة قد تأتي بالنتائج المرجوة لأنها راهنت على مصداقية إسحاق رابين آنذاك. أوسلو عمق الانقسام في الشارع الفلسطيني وذهب البعض الى حدود اتهام ياسر عرفات بالخيانة!! لكن الأيام أثبتت العكس ورغم إسقاطات أوسلو السلبية إلا أنه لم يكن خيار واقعي آخر، في ظل الظروف العربية والدولية التي ذكرتها.

من هنا فان التقاطبات الحاصلة في الشارع الفلسطيني جاءت نتاجا لاتفاقات أوسلو .. وحتى على الصعيد الداخلي لحركة "فتح" اشتد النقاش الذي كاد أن يصل الى الانشقاق بين تيار الصقور الذي يتزعمه فاروق القدومي والتيار الحمائمي الذي يتزعمه أبو مازن .. إحدى النتائج المأساوية لأوسلو هو الانشقاق الحاصل على المستوى الفلسطيني العام والذي يسجل في ميزان كوارث أوسلو!

إذا فلو قارنا سلبيات أوسلو مع ايجابياتها لرأينا بأن السلبيات فاقت بكثير الايجابيات!!

ما بعد أوسلو وتنامي "حماس"..
إحدى إفرازات أوسلو هو تنامي التيار المعارض في الشارع الفلسطيني وبالتحديد حركة "حماس" التي استثمرت الظروف السياسية لصالح تقوية بنيتها وترسيخ أجندتها السياسية في الشارع الفلسطيني كون اتفاقات أوسلو فشلت فشلا ذريعا ... فالدولة الفلسطينية الموعودة لم تقم وإسرائيل تنكرت لتلك الاتفاقات بعد اغتيال رابين والبطش الإسرائيلي ازداد .. فكان من الطبيعي أن تستقطب حماس العديد من الكوادر والفئات الشعبية الفلسطينية التي أيقنت انه لا مجال للمراهنة على الحلول السلمية الوهمية.. ولا مجال للبقاء في القيد الفتحاوي الذي لم يستطيع الإيفاء بالتزاماته تجاه الشعب الفلسطيني ... فالقمع والحصار الإسرائيلي ازداد.. ومما عزز قوة "حماس" في الشارع الفلسطيني تبنيها خيار المقاومة بعد فشل الخيار السلمي.. إضافة الى الظروف العالمية وتنامي الحركات الإسلامية على امتداد الوطن العربي نتيجة لسياسة الإذلال والاهانة التي مارستها وتمارسها الولايات المتحدة ضد الشعوب العربية والإسلامية وغياب دور اليسار الفلسطيني الذي راوغ وراوح في فلك الأنظمة ... إضافة الى فشل حركة "فتح" في قيادة مؤسسات الشعب وبروز طبقة المفسدين الذين نهبوا أموال الشعب وتكرشوا عل حساب لقمة الفقراء ... لم تستطيع حركة فتح تطهير نفسها من هؤلاء الذين أساؤوا للشعب وقضيته ولا أريد أن أورد الأسماء .. وأظن بان هذا المرض الفتحاوي يعتبر استمرارا لرواسب بيروت وهذا ما أشار إليه شفيق الحوت أحد القادة الفتحاويين والذي حيد مؤخرا.

الجسد والهيكل الفتحاوي غير معافى ونحن نريد له أن يتعافى من مرضه المزمن والذي لو استمر سيقضي عليه تماما! يتوجب على القيادة الوطنية الحكيمة في "فتح" أن تكون على قدر عال من الجرأة والمسؤولية وتحاول إجراء عملية تطهير لهيكل الحركة من كل الأوبئة والفيروسات القاتلة من قياديين .. إن غيرتي على هذه الحركة التي قادت النضال الوطني الفلسطيني وصاغت الهوية الفلسطينية المعاصرة تدفعني دائما الى نقدها وبقسوة لربما تترك الكلمة صدى لدى الشرفاء من أبنائها .

ماذا تعني الشرعية .. ومن هي؟
كثرت النقاشات حول الشرعية الفلسطينية .. هل هي لـ"حماس" التي فازت بالانتخابات التشريعية أم لـ"فتح" التي فازت بالانتخابات الرئاسية! وهنا لا بد لنا من التذكير بأن الولايات المتحدة انقلبت على الديمقراطية وإفرازاتها عندما فازت "حماس" وبتعاون من بعض أقطاب "فتح" وأصبح همها الوحيد قلب ميزان الانتخابات وإفشال حركة "حماس" من خلال تشديد الحصار وقطع الدعم والمعونات العالمية وحتى العربية (التجويع من أجل التركيع )... والشعب هو الذي دفع الثمن! ليس أبو مازن ولا إسماعيل هنية! وشهدنا مرحلة التناحر الفلسطيني الداخلي حتى وصل ذروته في الاقتتال الدموي الذي دار بين الأخوة.

لا أحد يستطيع إنكار شرعية منظمة التحرير الفلسطينية التي انتزعت اعتراف العالم بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في أوائل السبعينات... لكن ما يتبادر الى الذهن .. منذ السبعينات حصلت تحولات عديدة على المستوى الفصائلي للشعب وبرزت طاقات وأحزاب واطر لم تحظى بتمثيل حتى الآن في هيئات "م ت ف" وبقيت المنظمة حكرا على "فتح" والدائرين في فلكها... ولم يتم تحديث "م ت ف" بالشكل الذي يتماشى مع التطور في الخارطة الفلسطينية الحزبية والاجتماعية وللتذكير نصف أعضاء اللجنة التنفيذية توفاهم الله أو استشهدوا.

وكانت "فتح" دائما العائق أمام تحديث وتفعيل المنظمة، لأن عملية التحديث قد تطيح بسيطرتها على المنظمة. وعليه نستطيع القول بان المنظمة أصابها الشلل التام! ويتم إيقاظها فقط عندما تكون "فتح" بحاجة الى إصدار مراسيم وتوقيع معاهدات واتفاقات!

ما العمل للخروج من المأزق..؟
المهمة الوطنية الملقاة على عاتق الشعب الفلسطيني بكافة أطيافه السياسية، تتمثل بترتيب البيت الفلسطيني الداخلي وتعليب الصراعات الفكرية مؤقتا الى حين إقامة الدولة الفلسطينية حتى يكون الخطاب الفلسطيني أقوى أي العمل بنظرية وحدة وصراع الأضطاد!! فلا مكان للصراعات الفكرية الداخلية في واقع الاحتلال ولا مكان للاصطفاف العقائدي الذي من شأنه إضعاف الموقف الفلسطيني وزيادة حدة التقاطبات والتناحرات الداخلية التي من شأنها أن تعيق مسيرة التحرر الوطني .... ومن أجل النهوض بهذه المهمة يتطلب:

1 - إعادة هيكلة م ت ف وتحديثها بالشكل الذي يضمن تمثيل كافة الأطياف السياسية والاجتماعية وفق برنامج حد أدنى يراعي الثوابت الوطنية الفلسطينية مع مراعاة الواقع العالمي، إذ ليس بالإمكان التحرك الدبلوماسي والسياسي دون مؤازرة العالم واستقطاب تعاطفه وإعادة هيبة المنظمة المفقودة واعتماده كمرجعية عليا يحتكم إليها بكل ما يخص الشأن الفلسطيني.

2- مسح آثار الاقتتال الداخلي الأخير والكف عن الحرب الإعلامية والمخابراتية الدائرة بين الطرفين .. وهذا يتطلب تراجع "حماس" عن عمليتها الأخيرة في غزة وفي نفس الوقت تراجع "فتح" عن المراسيم التي أصدرت وإقالة حكومة الطوارئ وتشكيل حكومة وحده وطنية تضم كل الفصائل بما فيها "حماس" واليسار الفلسطيني المهمش .. والاتفاق على إجراء انتخابات نزيهة وفق قانون انتخابي جديد (الانتخابات النسبية) حتى تحظى كل التيارات بتمثيل ملائم.

3- تشكيل الحكومة الفلسطينية المنتخبة على أساس أن تكون حكومة إدارية (تكنوقراطية) والشؤون السياسية تضطلع بها "م ت ف" .. ويتم تحديد مهام هذه الحكومة وفق برنامج تحدده "م ت ف" والأطراف المشاركة فيها.. إذ ليس من المقبول أن يكون هناك تضارب في المهام بين الطرفين.

وإذا لم تعمل الأطراف على إعادة اللحمة للشعب الفلسطيني وفصائله فأنني لا أرى في الأفق القريب الا المزيد من الاحتراب والانقسام الذي من شأنه أن يفقد القضية مصداقيتها في العالم وتبقى القضية تتدحرج في قلب العاصفة .. وهذا ما لا نريده ولا يريده أي شريف على هذه الأرض.

* كاتب فلسطيني من داخل فلسطين 1948.